الأربعاء، 4 نوفمبر 2009

شيماء عبد الرؤوف تكتب: ....نظرة


تسللت قشعريرة باردة إلى أوصالي لم تكن المرة الأولى التي أدخل فيها إلى مثل هذا المكان لكني شعرت بقلق لا بل برهبة من شيء غامض، استجمعت قواي وحاولت أن أنفض عن ذهني تلك الهواجس وبدأت في السير استطلع ذلك الطريق الإسفلتي يحفه من كلا الجانبين الأشجار والحشائش الخضراء والزهور المتناسقة الألوان وتنعكس عليه أشعة الشمس الدافئة التي تطل علينا في هذا الفصل البديع وسرعان ما وصلت مع زملائي إلى ساحة أشبه في دورانها بالمسرح الروماني القديم حيث تنتهي مدرجاتها في الأسفل بصرح واسع، فجلسنا على المدرجات ننتظر الأطفال، ولم نلبث كثيرًا حتى وجدنا الصغار يتسربون إلينا واحدًا تلو الآخر تتراوح أعمارهم مابين خمس وعشر سنوات، حتى بدت لي تلك العينين ووجدتني انجذب إليها وتسحرني نظرتها وتفصلني عن عالمي رويدًا ...رويدًا....
وجدت عينا غامضة.. منكسرة.. متوسلة.. حزينة.. حائرة .. تترقرق بالدموع نظرة لم أعلم إذ كانت نظرة طفولة بريئة أم نظرة حزن يائسة أهي فرحة سعيدة أم أنها تسابق عالمنا هذا إلى لحظات آنية بعيدة، وقفت وبدأت في المشي نحوها.
كانت عروض الاحتفال فقرة ساحر تليها رقص شعبي، لم ألتفت إلى كل هذا قط كنت أحاول الخوض في عالم تلك العينين, حائرة في الوصول لغموض تلك النظرة، ثم بدأت فقرة غناء، وأنا أنتظر على أحر من الجمر أتأمل العينين لعلي اكتشف سر غموضها، وأخيرًا انتهى الحفل.
انتصبت واقفة وسرت بخطوات بطيئة، دقات قلبي تتزايد وأنفاسي تتلاحق وعقلي كاد أن يطير ليصل إلى ذلك الطفل صاحب العينين، مازالت هناك عشر خطوات تفصل بين عالمي وعالمه الذي يحيطه الغموض، خطواتي تتثاقل، وفجأة انتفض جسدي بأكمله.
لم أستوعب للوهلة الأولى ماذا حدث، ثم أدركت؛ كان فتى صغير وقع أمامي ساعدته على النهوض نظر إلي ضاحكا ابتسمت إليه أخذ يلاعبني فحملته بين يدي، أخذت أدور به وأسرع في الدوران وعيني وقلبي لا زالا عالقين هناك عند العينين الغامضتين، شعرت ببعض الإرهاق فأخذته وجلسنا على أقرب نقطة من المدرج تسمح لي برؤية صاحب النظرة، تحدثنا سويًا وعلمت أنه يدعى جاسم واختلست نظرة إلى العينين، ولكنني لم أجدها تلك المرة.
أخذت أبحث ببصري هنا وهناك كالمجنونة أبحث عن يميني ويساري ومن أمامي وخلفي، وانتفضت وتراجعت بأعلى جسدي، كان على بعد خطوات قليلة مني، وجدته يتفرس في وجهي.. وبشدة.
شرعت في التحدث إليه أسأله عن اسمه لكن لساني لم يتحرك وظل عاجزا لا يقوى على ترديد أى كلمة، حاولت عدة مرات لكن جميعها باءت بالفشل، صرخت أعماقي أيها اللسان اللعين ماذا أصابك؟ لم تصمت الآن؟ أخذت نفسًا عميقًا، وبدأت العينين تقترب أكثر.
وأخيرا سمعت صوتا لم أستطع تمييزه في بداية الأمر لا؛ إن شفتي لا زالا مطبقتين، كانت الكلمة من صاحب العينين قال (أنا عراقي) اهتز كياني بأكمله شعرت بحروفها تخترق ذهني وكأنه ألبوم صور يمر داخل ذاكرتي عالم آخر وزمن انقضى وجيل انتهى وعيون دامعة....
صور أطفال دير ياسين 1948 المشققة بطونهم، عيون جاحظة لأطفال أجسادهم وارتها  أنقاض مدرسة بحر البقر 1970 وحقائبهم الملقاة بجانبهم ملطخة بدمائهم، أطفال أسرى 1956 يشاهدون أبائهم تدهسهم دبابات العدو الصهيوني وتسير ببطء على أجسادهم الواحد تلو الآخر منهم من يستشهد ومنهم من يدفن حيًا، أطفال صابرا وشاتيلا 1982 وقانا 1996 ومذبحه الخليل 2001 ملقاة أجسادهم على الطرقات مبعثرة الأشلاء، طفلة تختبئ في أحضان أخيها وأخرى تلعب مع أقرانها أمام منزلها ورصاص لم تعرف الرحمة طريقها إليها، أطفال باكية مشردة في البوسنة وفلسطين والشيشان وأفغانستان، وأخيرًا العراق طفلات مغتصبات ينزفن حتى الموت وأخريات يشاهدن أمهاتهن عاريات يتوسلن إلى الموت، طفل مبتسم والحلوى في فمه لكنه لم يجد مفرًا من الموت وآخر تُسلب حياته وهو في أحضان أبيه لعله يحميه من الموت، وأطفال صرعى  بين أيدي أمهاتها وصور تكررت في مذبحة قبية 1953 وكفر قاسم 1956، مذبحة المسجد الأقصى 1990 والحرم الإبراهيمي 1994 ومازالت تتكرر كل يوم، ودماء تجري على أراضينا العربية وحكام يجرون وراء كراسي وعروش وأموال ومحكومون يبحثون لأبنائهم عن مجرد ملذات وهناك أطفال يغتصب منهم أدنى حقوقهم وهي الحياة ونحن غافلون متناسون حقوقهم، (أنتي وحشة).
انتزعتني تلك الكلمة من أفكاري ...بحثت عن الطفل فلم أجد له أدنى أثر، فتذكرت الفتى ونظرت إليه لأجده غاضبا ثائرا سألته وتركني بعد أن ضربني بيديه الصغيرتين، تنبهت على أصوات تنادي من أجل الرحيل نظرت حولي أبحث عن الطفل وجدت الفتى ينظر إلىّ نظرة يملؤها العتاب فأدرت وجهي وكأني لم أر شيئًا وعدت إلى الجامعة وتناسيت نظرة الطفل لأني أدركت أنها ستتحول كغيرها من النظرات إلى مجرد.... نظرة.